كيف تصبح مفكراً متمرداً في تسع ساعات ؟ ( 2)
" كن غامضاً ":
:
يُروى أن لغوياً متنطعاً سأل خادمه سؤالاً غامضاً ، فقال : يا فلان " أصَقَعتِ العتاريف ؟ " .
فلم يفهم الخادم شيئاً من هذا السؤال العجيب ، فأراد أن يعامله بالمثل فقال له : " زقـفـيلم " .
فقال اللغوي : وما "زقفيلم" ؟
قال الخادم : وما معنى صقعت العتاريف ؟
قال قلت لك : أصاحت الديوك ؟
قال الخادم : وأنا قلت لك لم يصح منها شيء .
هذه الطرفة تكشف عن حقيقة أن خلل ( التعالي باللغة ) يعتري تكوين بعض الشخصيات المهزوزة في ثقتها بنفسها ، وهذا الاضطراب النفسي كان قديم الوجود في البيئة الثقافية والفكرية كما توحي الطرفة الآنفة .
:
تحدث عن أوضح نقطة بأعقد لفظة !
وهذا هو الضلع الثاني في (مثلث التمرد الفكري):كن غامضاً وتحدث عن أوضح النقاط بأعقد الألفاظ ، كما هو حال الكثير من المتسلقين الجدد على أسوار الفكر ، الذين يرون أنه لا يمكن تحقيق أي مكانة في عالم الثقافة بلا استعمال لغة معقدة كما استعملها بعض الفلاسفة ، وهذا ما جلب الكثير من السخرية لحال هؤلاء " البراعم الجدد " المشترطين لتميزهم الفكري أن ينعكس في تعبيراتهم الغامضة وأساليبهم الوعرة ؛ أسوة بقدواتهم من المتفلسفة .
:
التأسي بغموض الفلاسفة المحترفين !
يتعمد بعض المفكرين والفلاسفة استعمال العبارات " غير المفهومة " أو المصطلحات المتخصصة سعياً منهم لإيصال رسالة إلى القارئ بأن طرحهم من العمق والتعقيد ما يجعل فهم كتاباتهم من ضروب المستحيل إلا على المحترفين المتخصصين ، وقد كشف " نيغيل واربورتون " في كتابه " الفلسفة – الأسس " هذه الحقيقة بعد أن أكد أن الفلاسفة يستعملون في كتاباتهم الكثير من المصطلحات " غير الضرورية " وبلا أي هدف علمي ، ويقول في ذلك ( ص 21) : ( يميل الفلاسفة المحترفون إلى استعمال المصطلحات المتخصصة من دون أي هدف ، فيستعمل عدد منهم العبارات اللاتينية ، حتى لو كان هناك ما يكافئها من العبارات الانكليزية القادرة على إيصال المعنى ).
وهذا تماماً ما تقوم به " البراعم المتمردة " ، يستعملون " العبارات اللاتينية " ليضيفوا هالة من الغرابة والغموض المعقد على كتاباتهم وأحاديثهم .
:
قاموس " الغموض " السريع للبراعم الجدد !
ولهذا تُوجه الوصية إلى (البُرعم " المُدرعِم ") في عالم الفكر حديثاً ، بهذه الطريقة : إن شئت أن تسير على خطى أولئك القدوات من أساتذة الفلاسفة ، فعليك بنهجهم ، وإليك نصيحة تضفي عليك سمات المفكر المتمرد في سويعات :
لا تقل : تربوي ، قل : بيداغوجي .
ولا تقل : غيبي ، قل : ميتافيزيقا .
ولا تقل : المتعاليات ، قل : الترانستدالي .
ولا تقل : تفكير مغلق ، ولكن قل : دوجماطيقي (دوغمائي) .
ولا تقل : الفهم ، قل : الهرمينوطيقا .
ولا تقل : الجمال ، قل : الاستطيقا .
ولا تقل : اجتماعي ، قل : سيسولوجي .
ثم لا بأس من (حزمة عبارات) لإكمال مظهريتك الفريدة من قبيل: اللوغوس ، الكاوس ، الإمبريقي ، فينومولوجيا ، ميثادلوجيا ، الكولينالية ، الإمبريالية ، الكوسمولجيا ، وأركولوجيا ، والماضوية ، والإنسانوية ، والإرثوذكسية الكهنوتية .. الخ
وكن كما يقول إخواننا المصريون : ( فتح عينك .. تأكل ملبن ) .. ( وطلب الرزق .. يحب الخفية ) يا خفيف .. فليس هناك أسرع من هذا المسلك لتكون مفكراً متمرداً مختلفاً يُدهش السذج بسرعة البرق !
:
تكلم بلغة " المشعوذين " !
وقد ذكر " كولن ولسون " في كتابه " ما بعد اللا منتمي " ( ص 68 ) هذا النص الطريف ، مما يؤكد شيوع هذا البلاء اللغوي :
( كتب " براند بلا نشهارد " قطعة رائعة هاجم فيها الأسلوب " الهيجلي " في التعبير : أن تقول بأن " الميجر أندريه " قد " شُنق" فهذا واضح وغير قابل للمناقشة [ والميجر رتبة عسكرية تساوي العقيد أو المقدم في البلاد العربية ]
أما أن تقول : بأنه " قُتل " فهذا أقل وضوحاً ويُسبب جدلاً لأنك لا تدري بأية طريقة قُتل ؟
وأن تقول : بأنه " مات " فهذا غير واضح وضبابي ؛ لأنك لا تعرف هل كان موته بطريقة وحشية عنيفة ، أم في حالة طبيعية ؟
وإذا أردنا أن نأخذه كأنموذج ، ونسأل الكُتاب أن يكتبوا جملة عنه ، فسنرى " سويفت " و " ماكولي " و " شو " يكتبون بكل بساطة بأنه قد " شُنق " ، و" بردالي " سيكتب : بأنه قد " قُتل " ، و" بوسنا كيت " سيكتب بأنه قد " مات " .
أما " إيمانويل كانت " فسيكتب : بأن وجوده اللا خالد قد جذب نهايته !
أما " هيجل " فسيكتب هذه الكلمات : صَمّمت الأبديةُ المطلقةُ على أن تَحد من استمرار مستقبله ؛ فسلبته وجوده ! ) .
وبهذا يخيل للقارئ أن المعنى الذي يريده " هيجل " أو " كانت " في غاية العمق والتعقيد ، بينما واقع الحال أن الموضوع برمته يمكن إيجازه في عبارة : الرجل " شُنق " !
فيا للسخرية كم كانوا بارعين ولكن في تصعيب العبارات الواضحة ، وكم كانوا حاذقين ولكن في تعقيد الأساليب الناصعة الجلية .
ولهذا كان " شوبنهاور " يقول عن " هيجل " بسبب ذلك الأسلوب المعقد الغامض : إنه ( دجال مشعوذ ) إشارة إلى أن المشعوذين عادة يستعملون عبارات " عالم السحر " غير المفهومة ، وكذا الفيلسوف " كارل بوبر" شن هجوماً لاذعاً على "هيجل " وأضرابه من أصحاب التعقيد والغموض.
:
سنتان ولم يفهم الأستاذ شيئاً !
ومصداق هذا التعقيد في العبارات الفلسفية عند هيجل على سبيل المثال ما وقع بالفعل لأستاذ الفلسفة في الجامعات العربية الدكتور إمام عبدالفتاح إمام المتخصص في فلسفة " هيجل " وأهم مفكر عربي ترجمها وقدمها للقراء العرب فقد قال في كتابه : " تجربتي مع هيجل " (ص 24) وهو يتحدث عن رسالته في الماجستير : ( وشرعتُ في قراءة نصوص " هيجل " لمدة عامين دون أن أفهم شيئاً ، ولجأت إلى التفسيرات والشروح ، ولكني لم أتقدم خطوة واحدة ) ثم وضح سبب الصعوبة تلك فقال : ( ولم أتبين وقتها أن " هيجل " كأي فيلسوف عظيم له مصطلحاته الخاصة ، وأنه قد نحت لنفسه مصطلحات جديدة من ناحية ، وحوّر في معاني المصطلحات القديمة لتناسب أغراضه الفلسفية من ناحية أخرى ) ، ويأتي د. إمام في ( ص 49 ) ليستعرض مثالاً على الأسلوب الغامض في استعمال المصطلح الهيجلي الواحد فيقول : ( تسعة مصطلحات يمكن أن نذكرها تحت فكرة الوجود ، وهي تترجم على النحو التالي : الوجود – الوجود الآخر – الوجود في ذاته – الوجود للذات – الوجود المتعين – الوجود المتعين بما هو كذلك – الوجود المتعين بصفة عامة – الوجود الفعلي – الوجود بالفعل .. )
قد نتفهم أسباب غموض التعبير عند فيلسوف كـ " هيجل " لكن كيف سنتفهم الأمر عند " البراعم " الذي لم يكمل الكثير منهم قراءة فصل من كتاب لهيجل ، أليس الأقرب للاحتمال أن استعمال الأسلوب الغامض بما فيه من مصطلحات غير متداولة يمنحهم شعوراً بالتعالم وإدهاش غيرهم ، ثم أليس التوجه لهذا الأسلوب يساعد على إمدادهم برغبة الظهور على أنهم من المختلفين عن أقرانهم فكراً وثقافة .
:
برجوازية الانتجلنسيا !
والأدهى أن ذلك التعقيد اللفظي يعزز لديهم مشاعر التقزز من مجتمعهم ، بل الامتلاء " بالقرف " من عموم الناس كما يظهر في فلتات ألسنتهم وشذرات من كتاباتهم ، يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم الأفضل ، فهم ليسوا " من الجمهور " ، إنهم " نخبة " متعالية مثقلة بالغرور والترفع .
ولو شئنا أن نستعير لغتهم المتعالية بكلمات ساخرة لنصف حالهم ، لقلنا : إنهم شريحة " برجوازية من طبقة الانتجلنسيا =( المثقفين ) يتسمون بالذوات المتضخمة " تجاه الهموم الشعبية "البروليتارية " = الطبقة الكادحة .
:
هل أنت من القطيع ؟!
والعجيب أنهم يرفعون عقيرتهم مطالبين بالديمقراطية والمشاركة الشعبية والمساواة بين البشر ، وضرورة احترام الإنسان مهما كان أصله أو فكره ، ومع ذلك يصفون تفكير مخالفيهم بـأنه من مخرجات ( عقلية القطيع ) ، فهل الناس في نظرهم قطعان ماشية ؟! أين كرامة الإنسان عندهم ؟
:
عنصرية تسكن في الأعماق !
إنهم يتصرفون بمثل هذه السلوكيات النخبوية المترفعة ، وكأنهم من طبقة اجتماعية عُليا ذات دماء زرقاء مختلفة عن دماء عموم الناس ، ولهذا بدأنا نطالع قول بعضهم : أي شيء تقبله أغلبية المجتمع يجب أن تتشكك في جدواه ، وهذا حكم جائر ينضح بفوقية مغرورة تدل على النقص المركب في شخصية قائله ، فالمفترض أن الحكم الموضوعي المتوازن تضبطه مقاييس دقيقة مبنية على مبادئ سليمة لمحاكمة الأفكار وتحديد ما يقبل منها وما يرفض ، وليس على مقياس سطحي كمقياس خالف الأكثرية !
:
هذه المقولة تتسم " بالمراهقة الفكرية " ؛ لأنها تقبل السهل المريح فكرياً من خلال تحديد موقفها من الأشياء بسذاجة هذا التصنيف التعيس ؛ إنه مقياس سطحي للغاية يحجب عن المغتر به كثيراً من الحقائق بسبب هذا التكبر المنفوخ .
إن هذه التصرفات لدى هؤلاء " البراعم " لشاهد واضح على أن " عنصرية " مقيتة تسكن في أعماقهم !
:
ولذا أقول : حتى المعرفة توجد فيها تلك " العنصرية الطبقية " المنفرة ، التي تؤدي بمن ساكنته أن يحتقر غيره ويسخر منه بتعبيرات من قبيل ما يطلقونه على مخالفيهم كعبارات : هم فائض بشري ، أو عالة على الكون ، أو يجب تطهير الوجود منهم ، يا لحقارة فكر " إنسان الجموع " ... الخ
:
في الحلقة القادمة وهي الأخيرة إن شاء الله سنكشف ما تبقى من زيف " البراعم الجدد " خاصة في المضلع الثالث من مثلث التمرد الفكري ، وهو : كن نسبياً ، فماهي نسبيتهم ، وماذا تقدم لهم ؟